فصل: مطلب فِي كَرَاهَةِ التَّحَدُّثِ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِمَا صَارَ بَيْنَهُمَا

صباحاً 8 :19
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **


 مطلب هَلْ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْغِيبَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُغْتَابِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ‏؟‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ ‏.‏

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ‏:‏ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فِي غَيْرِ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ ‏.‏

انْتَهَى ‏,‏ يَعْنِي سِوَى مَا قَدَّمْنَا ‏,‏ وَهَلْ هُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ مِنْ الصَّغَائِرِ ‏,‏ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ ‏.‏

قَالَ فِي الْإِنْصَافِ عَنْ النَّاظِمِ‏:‏ وَقَدْ قِيلَ صُغْرَى غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ وَكِلْتَاهُمَا كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدَ فَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا وَاسْتِحْلَالُ مَنْ اغْتَابَهُ أَوْ بَهَتَهُ أَوْ جَبَهَهُ بِأَنْ وَاجَهَهُ بِمَا يَكْرَهُ أَوْ نَمَّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ فِتْنَةٌ فَيَتُوبُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ وَلِلْمُغْتَابِ بِأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ لَنَا وَلَهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ‏:‏ يَذْكُرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أَنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الْغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْته تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ ‏"‏ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ وَقَالَ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ‏:‏ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ‏,‏ وَهُمَا هَلْ يَكْفِي فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْغِيبَةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُغْتَابِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ وَتَحَلُّلِهِ ‏.‏

قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِهِ بَلْ يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَذِكْرُهُ بِمَحَاسِنِ مَا فِيهِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي اغْتَابَهُ فِيهَا ‏.‏

وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ ‏.‏

قَالَ وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ جَعَلُوا الْغِيبَةَ كَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ‏,‏ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ‏,‏ فَإِنَّ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ يَنْتَفِعُ الْمَظْلُومُ بِعَوْدِ نَظِيرِ مَظْلِمَتِهِ إلَيْهِ ‏,‏ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا ‏.‏

وَأَمَّا فِي الْغِيبَةِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِإِعْلَامِهِ إلَّا عَكْسُ مَقْصِدِ الشَّارِعِ ‏,‏ فَإِنَّهُ يُوغِرُ صَدْرَهُ وَيُؤْذِيهِ إذَا سَمِعَ مَا رُمِيَ بِهِ ‏,‏ وَلَعَلَّهُ يُهَيِّجُ عَدَاوَتَهُ وَلَا يَصْفُو لَهُ أَبَدًا ‏.‏

وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَالشَّارِعُ الْحَكِيمُ لَا يُبِيحُهُ وَلَا يُجِيزُهُ ‏,‏ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُوجِبَهُ وَيَأْمُرَ بِهِ ‏.‏

وَمَدَارُ الشَّرِيعَةِ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا لَا عَلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكْمِيلِهَا ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَهُوَ كَمَا تَرَى فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ ‏.‏

‏(‏تَتِمَّةٌ‏)‏ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ الْغِيبَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الدِّينِ لَا فِي الْخِلْقَةِ وَالْحَسَبِ ‏,‏ وَأَنَّ قَوْمًا قَالُوا عَكْسَ هَذَا ‏,‏ وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ‏,‏ لَكِنَّ قَيْدَ الْإِجْمَاعِ فِي الْأَوَّلِ إذَا قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَيْبِ ‏,‏ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الْكَبَائِرِ ‏.‏

قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى وَفِي الْفُصُولِ وَالْمُسْتَوْعِبِ‏:‏ أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فِي الْإِقْنَاعِ ‏.‏

 مطلب فِي حُرْمَةِ إفْشَاءِ السِّرِّ وَذِكْرِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ

وَيَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ‏(‏إفْشَاءُ‏)‏ أَيْ نَشْرُ وَإِذَاعَةُ سِرٍّ ‏,‏ وَهُوَ مَا يُكْتَمُ كَالسَّرِيرَةِ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ وَسَرَائِرُ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ فشى خَبَرُهُ فُشُوًّا وَفَشْوًا وفشيا انْتَشَرَ وَأَفْشَاهُ نَشَرَهُ ‏.‏

وَلَعَلَّهُ يَحْرُمُ حَيْثُ أُمِرَ بِكَتْمِهِ أَوْ دَلَّتْهُ قَرِينَةٌ عَلَى كِتْمَانِهِ أَوْ مَا كَانَ يُكْتَمُ عَادَةً ‏.‏

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏.‏

الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ‏:‏ سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ ‏,‏ أَوْ فَرْجٍ حَرَامٍ ‏,‏ أَوْ اقْتِطَاعِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ‏"‏ ‏.‏

وَأُخْرِجَ عَنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إذَا حَدَّثَ رَجُلٌ رَجُلًا بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ ‏"‏ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ‏:‏ مَنْ سَمِعَ مِنْ رَجُلٍ حَدِيثًا لَا يَشْتَهِي أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْتِمْهُ ‏.‏

وَأَخْرَجَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه‏:‏ مَا خَطَبَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا قَالَ ‏"‏ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ ‏,‏ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ‏"‏ قَالَ فِي الْفُرُوعِ‏:‏ حُرِّمَ فِي أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ ‏.‏

وَفِي الرِّعَايَةِ يَحْرُمُ إفْشَاءُ السِّرِّ الْمُضِرِّ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَفِي التَّنْزِيلِ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً‏}‏ وَلَمَّا عَرَضَ عُمَرُ رضي الله عنه بِنْتَه حَفْصَةَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ قَالَ لَهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّك وَجَدْت عَلَيَّ حِينَ عَرَضْت عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إلَيْك شَيْئًا ‏,‏ فَقَالَ نَعَمْ ‏,‏ فَقَالَ إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ أَرْجِعَ إلَيْك فِيمَا عَرَضْت عَلَيَّ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه‏:‏ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَأْت عَلَى أُمِّي ‏,‏ فَلَمَّا جِئْت قَالَتْ مَا حَبَسَك‏؟‏ قُلْت بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ ‏,‏ قَالَتْ مَا حَاجَتُهُ‏؟‏ قُلْت إنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ لَا تُخْبِرْنَ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا ‏.‏

قَالَ أَنَسٌ‏:‏ وَاَللَّهِ لَوْ حَدَّثْت بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُك بِهِ يَا ثَابِتُ ‏.‏

وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَنْ أَسَرَّ إلَى أَخِيهِ سِرًّا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُفْشِيَهُ عَلَيْهِ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المطلب رضي الله عنه لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِيَك ‏,‏ يَعْنِي عُمَرَ رضي الله عنهم ‏,‏ فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا‏:‏ لَا تفشين لَهُ سِرًّا ‏,‏ وَلَا تَغْتَابَنَّ أَحَدًا ‏,‏ وَلَا يَطَّلِعْنَ مِنْك عَلَى كِذْبَةٍ ‏.‏

وَقَالَ الْحُكَمَاءُ‏:‏ ثَلَاثَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهَا‏:‏ شُرْبُ السُّمِّ لِلتَّجْرِبَةِ ‏,‏ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ إلَى الْقَرَابَةِ وَالْحَاسِدِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً ‏,‏ وَرُكُوبُ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ غِنًى ‏.‏

وَيُرْوَى‏:‏ أَصْبَرُ النَّاسِ مَنْ لَا يُفْشِي سِرَّهُ إلَى صَدِيقِهِ مَخَافَةَ التَّقَلُّبِ يَوْمًا مَا ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ‏:‏ الْقُلُوبُ أَوْعِيَةُ الْأَسْرَارِ ‏,‏ وَالشِّفَاهُ أَقْفَالُهَا ‏,‏ وَالْأَلْسُنُ مَفَاتِيحُهَا ‏,‏ فَلْيَحْفَظْ كُلٌّ مِنْكُمْ مَفَاتِيحَ سِرِّهِ ‏.‏

وَقَالَ أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيٍّ‏:‏ إنَّ سِرَّك مِنْ دَمِك ‏,‏ فَانْظُرْ أَيْنَ تُرِيقُهُ ‏.‏

وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ أَكْثَرُ مَا يَتِمُّ تَدْبِيرُ الْكِتْمَانِ ‏.‏

وَقَالَ الشَّاعِرُ‏:‏ وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ وَقَالَ آخَرُ‏:‏ فَلَا تُخْبِرْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ إنَّمَا السِّرُّ مَا أَسْرَرْته فِي نَفْسِك لَمْ تُبْدِهِ إلَى أَحَدٍ ‏.‏

قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه‏:‏ مَا اسْتَوْدَعْت رَجُلًا سِرًّا فَأَفْشَاهُ فَلُمْته لِأَنِّي كُنْت بِهِ أَضْيَقُ صَدْرًا حَيْثُ اسْتَوْدَعْته إيَّاهُ ‏.‏

وَإِلَى ذَا ذَهَبَ الْقَائِلُ‏:‏ إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ وَقَالَ آخَرُ‏:‏ إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي يَسْتَوْدِعُ السِّرَّ أَضْيَقُ وَقَالَ آخَرُ‏:‏ إذَا مَا ضَاقَ صَدْرُك عَنْ حَدِيثٍ فَأَفْشَتْهُ الرِّجَالُ فَمَنْ تَلُومُ‏؟‏ إذَا عَاتَبْت مَنْ أَفْشَى حَدِيثِي وَسِرِّي عِنْدَهُ فَأَنَا الظَّلُومُ فَإِنِّي حِينَ أَسْأَمُ حَمْلَ سِرِّي وَقَدْ ضَمَّنْته صَدْرِي مَشُومُ وَلَسْت مُحَدِّثًا سِرِّي خَلِيلًا وَلَا عُرْسِي إذَا خَطَرَتْ هُمُومُ وَأَطْوِي السِّرَّ دُونَ النَّاسِ إنِّي لِمَا اُسْتُوْدِعْت مِنْ سِرٍّ كَتُومُ وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ أَضْجَرَهُ كَتْمُ الْأَسْرَارِ وَأَنَّهَا تَغْلِي فِي قَلْبِهِ غَلَيَانَ النَّارِ ‏,‏ مَا ذَاعَ وَشَاعَ فِي النَّثْرِ وَالْأَشْعَارِ ‏,‏ فَمِنْهُ‏:‏ وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أَبُثُّهَا وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَقْتُلُنِي غَمَّا وَإِنَّ سَخِيفَ الرَّأْيِ مَنْ بَاتَ لَيْلَهُ حَزِينًا بِكِتْمَانٍ كَأَنَّ بِهِ حُمَّى وَفِي بَثِّك الْأَسْرَارَ لِلْقَلْبِ رَاحَةٌ وَتَكْشِفُ بِالْإِفْشَاءِ عَنْ قَلْبِك الْهَمَّا وَقَالَ آخَرُ‏:‏ وَلَا أَكْتُمُ الْأَسْرَارَ لَكِنْ أُذِيعُهَا وَلَا أَدَعُ الْأَسْرَارَ تَغْلِي عَلَى قَلْبِي وَإِنَّ ضَعِيفَ الْقَلْبِ مَنْ بَاتَ لَيْلَهُ تُقَلِّبُهُ الْأَسْرَارُ جَنْبًا عَلَى جَنْبِ وَقَدْ قِيلَ‏:‏ لَا تُطْلِعُوا النِّسَاءَ عَلَى سِرِّكُمْ يَصْلُحُ لَكُمْ أَمْرُكُمْ ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَلَى الْعَاقِلِ كِتْمَانَ السِّرِّ ‏,‏ وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ ‏.‏

وَقَالَ آخَرُ‏:‏ لَا تُودِعَن وَلَا الْجَمَادَ سَرِيرَةً فَمِنْ الْجَوَامِدِ مَا يُشِيرُ وَيَنْطِقُ وَإِذَا الْمُحَكُّ أَذَاعَ سِرَّ أَخٍ لَهُ وَهُوَ الْجَمَادُ فَمَنْ بِهِ يَسْتَوْثِقُ

 مطلب فِي كَرَاهَةِ التَّحَدُّثِ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِمَا صَارَ بَيْنَهُمَا

‏(‏فَرْعٌ‏)‏ يُكْرَهُ لِكُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ التَّحَدُّثُ بِمَا صَارَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لِضَرَّتِهَا ‏,‏ جَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَحَرَّمَهُ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ الْكَبِيرُ وَلِيُّ اللَّهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ رضي الله عنه ‏,‏ لِأَنَّهُ مِنْ السِّرِّ ‏,‏ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ حَرَامٌ ‏,‏ وَذَكَرَهُ فِي الْإِقْنَاعِ ‏,‏ وَكَذَا حَرَّمَهُ الْآدَمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ ‏.‏

قَالَ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ أَظْهَرُ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ قُعُودٌ عِنْدَهُ فَقَالَ ‏"‏ لَعَلَّ رَجُلًا يَقُولُ مَا فَعَلَ بِأَهْلِهِ ‏,‏ وَلَعَلَّ امْرَأَةً تُخْبِرُ بِمَا فَعَلَتْ مَعَ زَوْجِهَا ‏,‏ فأرم الْقَوْمُ أَيْ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ سَكَتُوا مِنْ خَوْفٍ وَنَحْوَهُ ‏,‏ فَقُلْت أَيْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ وَإِنَّهُنَّ لِيَفْعَلْنَ ‏.‏

قَالَ لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ مِثْلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً فَغَشِيَهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ أَحَدُهُمَا سِرَّ صَاحِبِهِ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْهُ مَرْفُوعًا ‏"‏ أَلَا عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَخْلُوَ بِأَهْلِهِ يُغْلِقَ بَابًا ثُمَّ يُرْخِيَ سِتْرًا ثُمَّ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ‏,‏ ثُمَّ إذَا خَرَجَ حَدَّثَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ ‏.‏

أَلَا عَسَى إحْدَاكُنَّ أَنْ تُغْلِقَ بَابَهَا وَتُرْخِيَ سِتْرَهَا ‏,‏ فَإِذَا قَضَتْ حَاجَتَهَا حَدَّثَتْ صَوَاحِبَهَا ‏.‏

فَقَالَتْ امْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُنَّ لِيَفْعَلْنَ وَإِنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ ‏.‏

قَالَ فَلَا تَفْعَلُوا فَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ كَمِثْلِ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَهَا ‏"‏ ‏.‏

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ السِّبَاعُ حَرَامٌ ‏"‏ قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ‏:‏ يَعْنِي بِهِ الَّذِي يَفْتَخِرُ بِالْجِمَاعِ ‏,‏ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقٍ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ ‏,‏ وَقَدْ صَحَّحَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ ‏,‏ قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ السِّبَاعُ بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ هُوَ الْمَشْهُورُ ‏,‏ وَقِيلَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي حُرْمَةِ اللَّعْنِ لِمُعَيَّنٍ وَمَا وَرَدَ فِيهِ

‏(‏ثُمَّ‏)‏ هِيَ حَرْفُ عَطْفٍ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ وَالتَّرَاخِيَ ‏,‏ وَكَأَنَّهُ عَطَفَ بِهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا لِشِدَّةِ حُرْمَةِ اللَّعْنِ ‏,‏ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بَوْنٌ فِي الْحُرْمَةِ ‏,‏ فَيَحْرُمُ إفْشَاءُ ‏(‏لَعْنٍ‏)‏ وَأَصْلُهُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ‏,‏ وَمِنْ الْخَلْقِ السَّبُّ وَالدُّعَاءُ كَمَا فِي النِّهَايَةِ ‏.‏

وَفِي الْقَامُوسِ‏:‏ لَعَنَهُ كَمَنَعَهُ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ فَهُوَ لَعِينٌ وَمَلْعُونٌ وَالْجَمْعُ مَلَاعِينُ وَالِاسْمُ اللَّعَّانُ واللعانية ‏,‏ وَاللُّعْنَةُ بِالضَّمِّ مَنْ يَلْعَنُهُ النَّاسُ ‏,‏ وَكَهُمَزَةٍ الْكَثِيرُ اللَّعْنِ لَهُمْ ‏.‏

وَقَالَ الْحِجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ‏:‏ لَعَنَهُ لَعْنًا مِنْ بَابِ نَفَعَ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ أَوْ سَبَّهُ فَهُوَ لَعِينٌ وَمَلْعُونٌ ‏,‏ وَالْمَرْأَةُ لَعِينٌ وَالْفَاعِلُ لَعَّانٌ ‏,‏ وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ هِيَ كُلُّ مَنْ ذَاقَهَا كَرِهَهَا وَلَعَنَهَا ‏,‏ يَعْنِي شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ‏,‏ جَعَلَهَا جَلَّ شَأْنُهُ فِتْنَةً لِلْكَافِرِينَ ‏,‏ فَقَالُوا النَّارُ تُحْرِقُ الشَّجَرَ فَكَيْفَ تُنْبِتُهُ‏؟‏ ‏(‏مُقَيَّدٌ‏)‏ أَيْ لِمُعَيَّنٍ فَيَحْرُمُ لَعْنُ الْإِنْسَانِ بِعَيْنِهِ أَوْ دَابَّةٍ ‏,‏ وَأَمَّا الْكُفَّارُ عُمُومًا فَلَا يَحْرُمُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ ‏.‏

قَالَ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ ‏,‏ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ‏.‏

قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ‏؟‏ قَالَ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ‏,‏ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ‏"‏ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ‏.‏

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا ‏"‏ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ بِلَفْظِ ‏"‏ لَا يَجْتَمِعُ أَنْ يَكُونُوا لَعَّانِينَ صِدِّيقِينَ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ ‏"‏ مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَلْعَنُ بَعْضَ رَقِيقِهِ ‏,‏ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ وَقَالَ لَعَّانِينَ وَصِدِّيقِينَ كَلَّا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ‏.‏

فَعَتَقَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَوْمَئِذٍ بَعْضَ رَقِيقِهِ ‏,‏ قَالَ ثُمَّ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا أَعُودُ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏"‏ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَمْ يَقُلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏.‏

وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ ‏"‏ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا ‏"‏ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ‏"‏ لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ ‏"‏ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ‏:‏ كُنَّا إذَا رَأَيْنَا الرَّجُلَ يَلْعَنُ أَخَاهُ رَأَيْنَا أَنْ قَدْ أَتَى بَابًا مِنْ الْكَبَائِرِ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ دُونَهَا ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا ‏,‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي لَعَنَ ‏,‏ فَإِنْ كَانَ أَهْلًا وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ ‏,‏ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ‏"‏ اللَّعْنَةُ إذَا وُجِّهَتْ إلَى مَنْ وُجِّهَتْ إلَيْهِ ‏,‏ فَإِنْ أَصَابَتْ عَلَيْهِ سَبِيلًا أَوْ وَجَدَتْ فِيهِ مَسْلَكًا وَإِلَّا قَالَتْ يَا رَبِّ وُجِّهَتْ إلَى فُلَانٍ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مَسْلَكًا وَلَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ سَبِيلًا ‏,‏ فَيُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا ‏,‏ فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ ‏"‏ قَالَ عِمْرَانُ‏:‏ فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ ‏.‏

لَهَا أَحَدٌ ‏.‏

وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ سَارَ رَجُلٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَعَنَ بَعِيرَهُ ‏,‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَسِرْ مَعَنَا عَلَى بَعِيرٍ مَلْعُونٍ ‏"‏ ‏.‏

وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَعْنِ الدِّيكِ فَقَالَ ‏"‏ لَا تَلْعَنُهُ وَلَا تَسُبُّهُ فَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الصَّلَاةِ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ أَنَسٌ‏:‏ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَدَغَتْ رَجُلًا بُرْغُوثٌ فَلَعَنَهَا ‏,‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَا تَلْعَنْهَا فَإِنَّهَا نَبَّهَتْ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِلصَّلَاةِ ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ ‏.‏

 مطلب فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْفُحْشِ وَذِكْرِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ

وَفُحْشٌ وَمَكْرٌ وَالْبَذَاءُ خَدِيعَةٌ وَسُخْرِيَةٌ والهزو وَالْكَذِبُ قَيِّدْ ‏(‏وَ‏)‏ يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ‏(‏فُحْشٌ‏)‏ بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ‏,‏ وَأَصْلُهُ كُلُّ مَا اشْتَدَّ قُبْحُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَا فِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ ‏.‏

وَلَمَّا قَالَتْ عَائِشَةُ لِلْيَهُودِ مَا قَالَتْ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَاحُشَ ‏"‏ أَرَادَ بِالْفُحْشِ التَّعَدِّيَ فِي الْقَوْلِ وَالْجَوَابِ لَا الْفُحْشَ الَّذِي هُوَ مِنْ قَذْعِ الْكَلَامِ وَرَدِيِّهِ ‏.‏

وَالتَّفَاحُشُ تَفَاعُلٌ مِنْهُ وَقَدْ يَكُونُ الْفُحْشُ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ وَالْكَثْرَةِ ‏,‏ وَمِنْهُ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ دَمِ الْبَرَاغِيثِ فَقَالَ إنْ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا فَلَا بَأْسَ ‏.‏

وَفِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ‏:‏ الْفُحْشُ كُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ مِقْدَارِهِ حَتَّى يُسْتَقْبَحَ وَيُذَمَّ ‏,‏ وَيَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالصِّفَةِ ‏,‏ يُقَالُ طَوِيلٌ فَاحِشُ الطُّولِ إذَا أَفْرَطَ فِي طُولِهِ ‏,‏ لَكِنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْقَوْلِ أَكْثَرُ ‏.‏

وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْفُحْشِ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ ‏.‏

فَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ يَا عَائِشَةُ لَوْ كَانَ الْحَيَاءُ رَجُلًا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا ‏,‏ وَلَوْ كَانَ الْفُحْشُ رَجُلًا كَانَ رَجُلَ سُوءٍ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ ‏,‏ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ‏"‏ أَنَّ يَهُودًا أَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ ‏,‏ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَلَيْكُمْ السَّامُ وَلَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ‏.‏

قَالَ مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْك بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا ‏"‏ اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكُمْ ‏,‏ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ‏.‏

فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إن اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ ‏.‏

قَالَتْ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا‏؟‏ قَالَ قَدْ قُلْت وَعَلَيْكُمْ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَالذَّامُّ ‏.‏

فَقَالَ يَا عَائِشَةُ لَا تَكُونِي فَاحِشَةً ‏,‏ فَقَالَتْ مَا سَمِعْت مَا قَالُوا‏؟‏ فَقَالَ أَوَ لَيْسَ قَدْ رَدَدْت عَلَيْهِمْ الَّذِي قَالُوا ‏,‏ قُلْت وَعَلَيْكُمْ وَفِي لَفْظٍ‏:‏ مَهْ يَا عَائِشَةُ فَإِنِّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ ‏"‏ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ‏{‏وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ‏}‏ الْآيَةَ ‏.‏

الذَّامُّ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ الذَّمُّ ‏,‏ وَرُوِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ الدَّائِمُ ‏,‏ وَالسَّامُ الْمَوْتُ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ ‏"‏ إنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا ‏"‏ قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ‏:‏ فِيهِ الِانْتِصَارُ مِنْ الظَّالِمِ وَالِانْتِصَارُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِمَّنْ يُؤْذِيهِمْ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا

بَطَنَ‏}‏ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ‏:‏ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ فَاحِشٌ ‏.‏

وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ الْفَاحِشَةِ فِي الزِّنَا واللواطة وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا ‏,‏ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِي النَّهْيِ عَنْ الْفُحْشِ

أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ ‏,‏ وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ ‏,‏ وَالْبَذَاءُ فِي الْجَفَاءِ ‏,‏ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ ‏"‏ ‏.‏

وَقَالَ ‏"‏ الْحَيَاءُ وَالْعَيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ ‏,‏ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ ‏"‏ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ‏.‏

قَالَ الْمُنْذِرِيُّ‏:‏ الْعَيُّ قِلَّةُ الْكَلَامِ ‏,‏ وَالْبَذَاءُ هُوَ الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ ‏,‏ وَالْبَيَانُ هُوَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْخُطَبَاءِ الَّذِينَ يَخْطُبُونَ فَيَتَوَسَّعُونَ فِي الْكَلَامِ وَيَتَفَصَّحُونَ فِيهِ مِنْ مَدْحِ النَّاسِ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ ‏"‏ الْحَيَاءُ وَالْعَيُّ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُمَا يُقَرِّبَانِ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدَانِ مِنْ النَّارِ ‏,‏ وَالْفُحْشُ وَالْبَذَاءُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُمَا يُقَرِّبَانِ مِنْ النَّارِ وَيُبَاعِدَانِ مِنْ الْجَنَّةِ ‏"‏ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَبِي أُمَامَةَ إنَّا لَنَقُولُ فِي الشِّعْرِ الْعَيُّ مِنْ الْحُمْقِ ‏,‏ فَقَالَ إنِّي أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُجِيبُنِي بِشَعْرِك الْمُنْتِنِ ‏.‏

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِاخْتِصَارٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ قُرَّةَ بْنِ إيَاسٍ رضي الله عنه قَالَ ‏"‏ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذُكِرَ عِنْدَهُ الْحَيَاءُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَيَاءُ مِنْ الدِّينِ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ الْحَيَاءَ وَالْعَفَافَ وَالْعَيَّ عَنْ اللِّسَانِ لَا عَنْ الْقَلْبِ وَالْعِفَّةُ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ وَيَنْقُصْنَ مِنْ الدُّنْيَا ‏,‏ وَمَا يَزِدْنَ فِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَنْقُصْنَ مِنْ الدُّنْيَا ‏,‏ وَإِنَّ الشُّحَّ وَالْعَجْزَ وَالْبَذَاءَ مِنْ النِّفَاقِ وَإِنَّهُنَّ يَزِدْنَ فِي الدُّنْيَا وَيَنْقُصْنَ مِنْ الْآخِرَةِ وَمَا يَنْقُصْنَ مِنْ الْآخِرَةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَزِدْنَ مِنْ الدُّنْيَا ‏"‏ ‏.‏

وَيَحْرُمُ أَيْضًا ‏(‏خَدِيعَةٌ‏)‏ أَيْ إرَادَةُ الْمَكْرُوهِ بِالْمُسْلِمِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ خَدَعَهُ كَمَنَعَهُ خَدْعًا وَيُكْسَرُ خَتَلَهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَكْرُوهَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ كاختدعه فَانْخَدَعَ وَالِاسْمُ الْخَدِيعَةُ ‏,‏ وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ مُثَلَّثَةٌ وَكَهُمَزَةٍ ‏.‏

قَالَ فِي الْمَشَارِقِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ ‏"‏ كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَأَكْثَرُ الرِّوَايَات لِلصَّحِيحَيْنِ وَضَبَطَهَا الْأَصِيلِيُّ خُدْعَةٌ بِالضَّمِّ ‏.‏

قَالَ أَبُو ذَرٍّ لُغَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْحِ وَبِهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ ‏,‏ وَحَكَى يُونُسُ فِيهِ الْوَجْهَيْنِ وَوَجْهًا ثَالِثًا خُدَعَةٌ بِضَمِّ الْخَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ ‏,‏ وَلُغَةً رَابِعَةً بِفَتْحِهِمَا ‏.‏

فَالْخَدْعَةُ يَعْنِي بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى أَنَّ أَمْرَهَا يَنْقَضِي بِخُدْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَخْدَعُ بِهَا الْمَخْدُوعَ فَتَزَلُّ قَدَمُهُ وَلَا يَجِدُ لَهَا تَلَافِيًا وَلَا إقَالَةً ‏,‏ فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ ‏.‏

وَمَنْ ضَمَّ الْخَاءَ وَسَكَّنَ الدَّالَ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تَخْدَعُ يَعْنِي أَهْلَهَا وَمُبَاشِرِيهَا ‏.‏

وَمَنْ ضَمَّ الْخَاءَ وَفَتَحَ الدَّالَ نَسَبَ الْفِعْلَ إلَيْهَا أَيْ تَخْدَعُ هِيَ مَنْ اطْمَأَنَّ إلَيْهَا وَأَنَّ أَهْلَهَا يُخْدَعُونَ فِيهَا ‏.‏

وَمَنْ فَتَحَهُمَا جَمِيعًا كَانَ جَمْعُ خَادِعٍ يَعْنِي أَنَّ أَهْلَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُطْمَأَنُّ إلَيْهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ أَهْلُ الْحَرْبِ خُدْعَةٌ ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ ‏.‏

قَالَ وَأَصْلُ الْخُدَعِ إظْهَارُ أَمْرٍ وَإِضْمَارُ خِلَافِهِ ‏,‏ وَيُقَالُ خُدِعَ الطَّرِيقُ فَسَدَ فَكَأَنَّ الْخِدَاعَ يُفْسِدُ تَدْبِيرَ الْمَخْدُوعِ وَيُقِيلُ رَأْيَهُ ‏.‏

وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ‏:‏ خَدَعَهُ يَخْدَعهُ خُدْعًا وَخِدْعًا أَيْضًا بِالْكَسْرِ مِثْلَ سَحَرَهُ سِحْرًا أَيْ خَتَلَهُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَكْرُوهَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ وَالِاسْمُ الْخَدِيعَةُ انْتَهَى ‏.‏

قُلْت‏:‏ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَهْلِ الْغَرِيبِ بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّهَا تُرْوَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ ‏,‏ وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْقَامُوسِ وَالْمَشَارِقِ بِضَمِّ مَا أَهْمَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مَا ذَكَرَهُ أَنَّهَا خَمْسُ لُغَاتٍ فَإِنِّ الْقَامُوسَ قَالَ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ مُثَلَّثَةٌ وَكَهُمَزَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ مُثَلَّثَةُ الْخَاءِ مَعَ سُكُونِ الدَّالِ ‏,‏ وَقَوْلُهُ كَهُمَزَةٍ أَيْ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَأَهْمَلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ مِنْ فَتْحِ الْخَاءِ وَالدَّالِ مَعًا ‏.‏

وَأَهْمَلَ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ فَتْحَ الْخَاءِ وَسُكُونَ الدَّالِ لَكِنَّهُ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى صَاحِبِ الْقَامُوسِ ‏,‏ لِأَنَّ مَنْ رَوَاهُ خدعة بِفَتْحِهِمَا فَهُوَ جَمْعُ خَادِعٍ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ ‏,‏ وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمَشَارِقِ إهْمَالُ لُغَةِ الْفَتْحِ مَعَ السُّكُونِ فَاحْفَظْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ‏.‏

 مطلب فِيمَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْخُدْعَةِ

قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ‏:‏ الْخُدْعُ أَنْ تُوهِمَ غَيْرَك خِلَافَ مَا تُخْفِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِتُنْزِلَهُ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ ‏,‏ مِنْ قَوْلِهِمْ خَدَعَ الضَّبُّ إذَا تَوَارَى فِي جُحْرِهِ ‏,‏ وَضَبٌّ خَادِعٌ وَخَدِعٌ إذَا أَوْهَمَ الْحَارِسَ إقْبَالَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابٍ آخَرَ وَأَصْلُهُ الْإِخْفَاءُ ‏,‏ وَمِنْهُ الْمَخْدَعُ لِلْخِزَانَةِ وَالْأَخْدَعَانِ لِعِرْقَيْنِ خَفِيفَيْنِ فِي الْعُنُقِ ‏.‏

فَالْمُخَادَعَةُ تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ‏.‏

وَخِدَاعُهُمْ مَعَ اللَّهِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا خَدِيعَتَهُ ‏,‏ بَلْ الْمُرَادُ إمَّا مُخَادَعَةُ رَسُولِهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَوْ عَلَى أَنَّ مُعَامَلَةَ الرَّسُولِ مُعَامَلَةُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَلِيفَتُهُ كَمَا قَالَ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ وَأَمَّا أَنَّ صُورَةَ صُنْعِهِمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ إظْهَارِ الْإِيمَانِ وَاسْتِبْطَانِ الْكُفْرِ وَصُنْعَ اللَّهِ مَعَهُمْ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عِنْدَهُ أَخْبَثُ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ ‏,‏ وَامْتِثَالَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرَ اللَّهِ فِي إخْفَاءِ حَالِهِمْ وَإِجْرَاءَ ‏.‏

حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ مُجَازَاةً لَهُمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ صُورَةَ صُنْعِ الْمُخَادِعِينَ ‏.‏

وَفِي الْقَامُوسِ‏:‏ وَإِذَا خَادَعُوا الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ خَادَعُوا اللَّهَ ‏.‏

وَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيُّ‏:‏ وَالْمُخَادَعَةُ هُنَا مِنْ وَاحِدٍ كعاقبت اللِّصَّ وَذِكْرُ اللَّهِ فِيهَا تَحْسِينٌ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

الْخَدِيعَةُ لَا تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏,‏ إذْ هِيَ تُنَافِي النُّصْحَ وَسَلَامَةَ الصُّدُورِ وَالْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ ‏,‏ وَتُنْبِتُ الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ وَالْغِلَّ وَالْحَسَدَ وَالْحِقْدَ ‏.‏

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ ‏"‏ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ كُلُّ مَحْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ ‏.‏

قَالُوا صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَحْمُومُ الْقَلْبِ‏؟‏ قَالَ هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ ‏"‏ ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا قَالَ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن بُدَلَاءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِكَثْرَةِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ لَكِنْ دَخَلُوهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَاوَةِ الْأَنْفُسِ وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ ‏"‏ ‏.‏

 مطلب فِي السُّخْرِيَةِ وَالْهُزُوِ وَمَا وَرَدَ فِيهِمَا

‏(‏وَ‏)‏ يَحْرُمُ ‏(‏سُخْرِيَةٌ وَالْهُزُوُ‏)‏ وَهُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ‏.‏

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ‏:‏ الْهُزُوُ السُّخْرِيَةُ وَفِي الْحَدِيثِ ‏"‏ أَتَسْخَرُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ ‏"‏‏؟‏ أَيْ أَتَهْزَأُ بِي ‏.‏

وَفِي الْقَامُوسِ هَزَأَ مِنْهُ وَبِهِ كَمَنَعَ وَسَمِعَ هُزْءًا وَهُزُءًا وَمَهْزَأَةً سَخِرَ كَتَهَزَّأَ وَاسْتَهْزَأَ ‏,‏ وَرَجُلٌ هُزْأَةٌ بِالضَّمِّ يُهْزَأُ مِنْهُ وَكَهُمَزَةٍ يَهْزَأُ بِالنَّاسِ ‏.‏

وَقَالَ سَخِرَ مِنْهُ وَبِهِ كَفَرِحَ سَخَرًا وَسُخْرًا وَسُخْرَةً هَزِئَ كاستخر وَالِاسْمُ السُّخْرِيَةُ ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُن‏}‏َّ قَالَ الضَّحَّاكُ‏:‏ نَزَلَتْ فِي وَفْدِ تَمِيمٍ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِفُقَرَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلِ عَمَّارٍ وَخَبَّابٍ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَلْمَانَ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ رَثَاثَةِ حَالِهِمْ ‏.‏

وَالْقَوْمُ وان كَانَ اسْمًا يَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ ‏,‏ فَمِنْ ثَمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ‏{‏وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء‏}‏ وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ أَنَّ قوله تعالى ‏{‏وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء‏}‏ نَزَلَتْ فِي صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها قَالَ لَهَا النِّسَاءُ يَهُودِيَّةٌ بِنْتُ يَهُودِيَّيْنِ ‏.‏

وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالنَّاسِ يُفْتَحُ لِأَحَدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلُمَّ فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ فَإِذَا جَاءَ أُغْلِقَ دُونَهُ فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتَحُ لَهُ الْبَابُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ فَمَا يَأْتِيهِ مِنْ الْإِيَاسِ ‏"‏ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا ‏.‏

وَفِي هَذَا وَعْظٌ لِمَنْ اتَّعَظَ وَإِيقَاظٌ لِمَنْ تَيَقَّظَ ‏.‏

قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ فِي أَقَاوِيلِ الثِّقَاتِ‏:‏ الِاسْتِهْزَاءُ مِنْ بَابِ الْعَبَثِ وَالسُّخْرِيَةِ فَمَعْنَى يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يَعْنِي يُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ فِي اللَّفْظِ لِيَزْدَوِجَ الْكَلَامُ كَ ‏{‏وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏{‏نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ وَالْمَعْنَى يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَهْزِئِ ‏,‏ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ وَاسْتِدْرَاجِهِمْ بِالْإِمْهَالِ ‏,‏ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيُرْوَى أَنَّهُ يُفْتَحُ لِأَحَدِهِمْ بَابُ الْجَنَّةِ فَيُسْرِعُ نَحْوَهُ فَإِذَا سَارَ إلَيْهِ سُدَّ دُونَهُ ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ آخَرُ فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ سُدَّ دُونَهُ ‏.‏

وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ ‏.‏

وَأَمَّا مَذْهَبُ السَّلَفِ فَلَا يُؤَوِّلُونَ وَلَا يُكَيِّفُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ لَا كَمَا يَخْطِرُ فِي أَوْهَامِ الْبَشَرِ ‏,‏ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ‏.‏

‏(‏تَنْبِيهٌ‏)‏ الْمُسْتَهْزِئُ بِغَيْرِهِ يَرَى فَضْلَ نَفْسِهِ بِعَيْنِ الرِّضَى عَنْهَا ‏,‏ وَيَرَى نَقْصَ غَيْرِهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ ‏,‏ إذْ لَوْ لَمْ يَحْتَقِرْ غَيْرَهُ لَمَا سَخِرَ مِنْهُ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ‏,‏ لَا يَظْلِمُهُ ‏,‏ وَلَا يَخْذُلُهُ ‏,‏ وَلَا يَحْقِرُهُ ‏,‏ التَّقْوَى هَهُنَا ‏,‏ التَّقْوَى هَهُنَا ‏,‏ التَّقْوَى هَهُنَا ‏,‏ وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ‏,‏ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ‏.‏

كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ‏:‏ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ ‏"‏ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي شَرْحِ النَّوَوِيَّةِ‏:‏ الْمُتَكَبِّرُ يَنْظُرُ إلَى نَفْسِهِ بِعَيْنِ الْكَمَالِ وَإِلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ فَيَحْتَقِرُهُمْ وَيَزْدَرِيهِمْ وَلَا يَرَاهُمْ أَهْلًا لِأَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِمْ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الْحَقَّ إذَا أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ ‏.‏

وَقَالَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ‏"‏ يَعْنِي يَكْفِيهِ مِنْ الشَّرِّ احْتِقَارُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ‏,‏ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْقِرُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لِتَكَبُّرِهِ عَلَيْهِ ‏,‏ وَالْكِبْرُ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الشَّرِّ ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ‏,‏ فَقَالَ رَجُلٌ إن الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا ‏,‏ فَقَالَ إن اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ‏,‏ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ - أَيْ دَفْعُهُ وَرَدُّهُ - وَغَمْطُ النَّاسِ ‏"‏ أَيْ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَبِالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا عِنْدَ الْحَاكِمِ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ‏:‏ مَالِكٌ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذَا سَمِعْتُمْ الرَّجُلَ يَقُولُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ ‏"‏ قَالَ أَبُو إسْحَاقَ سَمِعْته بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا قَالَ يَعْنِي بِنَصْبِ الْكَافِ مِنْ أَهْلَكَهُمْ وَرَفْعِهَا ‏.‏

وَفَسَّرَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ إذَا قَالَ ذَلِكَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ مُزْدَرِيًا بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَشَدُّ هَلَاكًا مِنْهُمْ ‏,‏ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي سَرَائِرَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ‏:‏ وَإِذَا كَانَتْ التَّقْوَى فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَى حَقِيقَتِهَا إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ‏"‏ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ‏.‏

فَكَثِيرٌ مَنْ يَكُونُ لَهُ صُورَةٌ حَسَنَةٌ أَوْ مَالٌ أَوْ جَاهٌ أَوْ رِيَاسَةٌ فِي الدُّنْيَا وَيَكُونُ قَلْبُهُ خَرَابًا مِنْ التَّقْوَى ‏,‏ وَيَكُونُ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَلْبُهُ مَمْلُوءًا مِنْ التَّقْوَى فَيَكُونُ أَكْرَمَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْأَكْثَرُ وُقُوعًا ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ‏"‏ إنَّ أَنْسَابَكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ نِسْبَاتٌ عَلَى أَحَدٍ ‏,‏ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ طُفْ الصَّاعَ لَمْ تَمْلَؤُهُ ‏,‏ لَيْسَ لِأَحَدٍ فَضْلٌ عَلَى أَحَدٍ إلَّا بِالدِّينِ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ ‏"‏ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ ‏"‏ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِالدِّينِ ‏,‏ أَوْ عَمَلٍ صَالِحٍ ‏,‏ حَسْبُ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا بَذِيًّا بَخِيلًا ‏"‏ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ‏"‏ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فَضْلٌ إلَّا بِدِينٍ أَوْ تَقْوَى ‏,‏ وَكَفَى بِالرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ بَذِيًّا فَاحِشًا بَخِيلًا ‏"‏ قَوْلُهُ طُفْ الصَّاعَ بِالْإِضَافَةِ أَيْ قَرِيبٌ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ‏"‏ اُنْظُرْ فَإِنِّكَ لَسْت بِخَيْرٍ مِنْ أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِتَقْوَى ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ مَنْ يُجْهَلُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ ‏"‏ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ فَقَالَ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ‏,‏ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ‏.‏

أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ‏,‏ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ‏,‏ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ‏,‏ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إلَّا بِالتَّقْوَى إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ‏.‏

أَلَا هَلْ بَلَّغْت‏؟‏ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ‏,‏ قَالَ فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ‏,‏ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ ‏.‏

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْمَحْفُوظُ الْمَوْقُوفُ ‏"‏ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَمَرَ اللَّهُ مُنَادِيًا يُنَادِي أَلَا إنِّي جَعَلْت نَسَبًا وَجَعَلْتُمْ نَسَبًا ‏,‏ فَجَعَلْت أَكْرَمَكُمْ أَتْقَاكُمْ ‏,‏ فَأَبَيْتُمْ إلَّا أَنْ تَقُولُوا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ‏,‏ فَالْيَوْمَ أَرْفَعُ نَسَبِي وَأَضَعُ نَسَبَكُمْ ‏,‏ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ ‏"‏ ‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ‏"‏ مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ‏"‏ ‏.‏

وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ ‏,‏ النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ‏,‏ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ‏,‏ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ ‏,‏ لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِرِجَالٍ إنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ ‏,‏ أَوْ لَيَكُونَنَّ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ النَّتِنَ بِأَنْفِهَا ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعْلِ يَدْفَعُ الْخَرْءَ بِأَنْفِهِ ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخَرْءَ بِأَنْفِهِ ‏"‏ قَوْلُهُ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ هِيَ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَكْسُورَةً وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ أَيْضًا هِيَ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالنَّخْوَةُ ‏,‏ وَالْجُعَلَانِ جَمْعُ جُعَلٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ دُوَيْبَةٌ أَرْضِيَّةٌ ‏.‏

قَالَ فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ‏:‏ الْجُعَلُ كَصُرَدٍ وَرُطَبٍ جَمْعُهُ جُعَلَانِ وَيُقَالُ لَهُ أَبُو جِعْرَانَ وَهُوَ دُوَيْبَةٌ مَعْرُوفَةٌ تُسَمَّى الزعقوق وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ الْخُنْفُسَاءِ شَدِيدُ السَّوَادِ فِي بَطْنِهِ لَوْنُ حُمْرَةٍ لِلذَّكَرِ قَرْنَانِ يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَرَاحِ الْبَقَرِ وَالْجَامُوسِ وَمَوَاضِعُ الرَّوْثِ يَتَوَلَّدُ غَالِبًا مِنْ أَخْثَاءِ الْبَقَرِ ‏,‏ وَمِنْ شَأْنِهِ جَمْعُ النَّجَاسَةِ وَادِّخَارُهَا وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ أَنَّهُ يَمُوتُ مِنْ رِيحِ الْوَرْدِ وَرِيحِ الطِّيبِ ‏,‏ فَإِذَا أُعِيدَ إلَى الرَّوْثِ عَاشَ ‏.‏

وَفِي كَلَامِ شَيْخِنَا الشَّيْخِ عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلْسِيِّ‏:‏ وَمِنْ أَيْنَ لِلْجُعَلَانِ تَعْبَثُ فِي الْوَرْدِ وَفِي لَامِيَّةِ ابْنِ الْوَرْدِيِّ‏:‏ أَيُّهَا الْعَائِبُ قَوْلِي عَبَثًا إنَّ طِيبَ الْوَرْدِ مُؤْذٍ بِالْجُعَلِ وَفِي كَلَامِ الْمُتَنَبِّي‏:‏ كَمَا تَضُرُّ رِيَاحُ الْوَرْدِ بِالْجُعَلِ وَلَهُ جَنَاحَانِ لَا يَكَادُ أَنْ يُرَيَانِ إلَّا إذَا طَارَ ‏,‏ وَلَهُ سِتَّةُ أَرْجُلٍ وَسَنَامٌ مُرْتَفِعٌ جِدًّا ‏,‏ وَهُوَ يَمْشِي الْقَهْقَرَى إلَى خَلْفِهِ وَهُوَ مَعَ هَذِهِ الْمِشْيَةِ يَهْتَدِي إلَى بَيْتِهِ وَيُسَمَّى الْكَبَرْتَكَ ‏.‏

واذ أَرَادَ الطَّيَرَانَ تَنَفَّسَ فَيَظْهَرُ جَنَاحَاهُ ‏.‏

وَمِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَحْرُسُ النِّيَامَ ‏,‏ فَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ تَبِعَهُ مِنْ شَهْوَتِهِ لِلْغَائِطِ لِأَنَّهُ قُوتُهُ ‏.‏

وَقَوْلُهُ يُدَهْدِهُ أَيْ يُدَحْرَجُ وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ ‏.‏

وَفِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ وَالشُّعَبِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ‏"‏ لَا تَفْخَرُوا بِآبَائِكُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَا يُدَحْرِجُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ‏"‏ ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ افْتَخَرَ عَلَى إخْوَانِهِ وَاحْتَقَرَ أَحَدًا مِنْ أَقْرَانِهِ وَأَخْدَانِهِ أَوْ سَخِرَ أَوْ اسْتَهْزَأَ بِأَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ بَاءَ بِالْإِثْمِ وَالْوِزْرِ الْمُبِينِ ‏.‏

‏(‏وَ‏)‏ يُحَرِّمُ ‏(‏الْكَذِبَ‏)‏ لَا مُطْلَقًا بَلْ ‏(‏قَيَّدَ‏)‏ تَحْرِيمَهُ ‏.‏

 مطلب فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ

بِغَيْرِ خِدَاعٍ الْكَافِرِينَ بِحَرْبِهِمْ وَلِلْعِرْسِ أَوْ إصْلَاحِ أَهْلِ التَّنَكُّدِ ‏(‏بِغَيْرِ‏)‏ أَحَدِ ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ ‏,‏ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بِغَيْرِ ‏(‏خِدَاعِ الْكَافِرِ‏)‏ وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْخِدَاعَ إرَادَةُ الْمَكْرُوهِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ ‏,‏ وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ ‏"‏ و الْكَافِرِينَ جَمْعُ كَافِرٍ مِنْ الْكُفْرِ وَهُوَ ضِدُّ الْإِيمَانِ وَيُفْتَحُ كَالْكَفُورِ وَالْكُفْرَان بِضَمِّهِمَا وَكَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ وَبِهَا كَفُورًا وَكُفْرَانًا جَحَدَهَا وَسَتَرَهَا ‏(‏بِحَرْبِهِمْ‏)‏ أَيْ فِي أَمْرِ حَرْبِهِمْ وَجِهَادِهِمْ وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى خِذْلَانِهِمْ وَفَشَلِهِمْ ‏(‏وَ‏)‏ الْمَوْضِعُ الثَّانِي إذَا كَانَ لِغَيْرِ ‏(‏الْعِرْسِ‏)‏ يَعْنِي وَهِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الْعِرْسُ بِالْكَسْرِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ وَرَجُلُهَا جَمْعُهُ أَعْرَاسٌ ‏.‏

وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ‏(‏أَوْ‏)‏ يَكُونُ الْكَذِبُ لِغَيْرِ ‏(‏إصْلَاحِ‏)‏ ذَاتِ بَيْنِ ‏(‏أَهْلِ التَّنَكُّدِ‏)‏ بِمَا يُذْهِبُ وَغْرَ صُدُورِهِمْ وَيَجْمَعُ شَمْلَهُمْ وَيَضُمُّ جَمَاعَتَهُمْ وَيُزِيلُ فُرْقَهُمْ ‏.‏

وَالْإِصْلَاحُ ضِدُّ الْإِفْسَادِ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ الصَّلَاحُ ضِدُّ الْفَسَادِ ‏,‏ وَأَصْلَحَهُ ضِدُّ أَفْسَدَهُ ‏,‏ وَالتَّنَكُّدُ التَّعَاسُرُ ‏.‏

قَالَ فِي الْقَامُوسِ‏:‏ تَنَاكَدَا تَعَاسَرَا ‏.‏

وَنَاكَدَهُ عَاسَرَهُ ‏,‏ وَأَصْلُ النَّكِدِ الشِّدَّةُ وَالْعُسْرَةُ ‏,‏ يُقَالُ نَكِدَ كَفَرِحَ ‏,‏ وَرَجُلٌ نَكَدٌ شُومٌ ‏,‏ وَقَوْمٌ أَنْكَادٌ وَمَنَاكِيدُ ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ كَعْبٍ رضي الله عنه مِنْ بَانَتْ سُعَادُ‏:‏ قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نَكَدُ مثاكيل ‏,‏ فَالْمُرَادُ بِالنَّكَدِ فِي كَلَامِهِ اللَّاتِي لَا يَعِيشُ لَهُنَّ وَلَدٌ ‏,‏ الْوَاحِدَةُ نُكْدَى كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ابْنُ هِشَامٍ ‏.‏

رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ‏:‏ الرَّجُلُ يَكْذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ ‏,‏ وَالرَّجُلُ يَكْذِبُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا ‏,‏ وَالرَّجُلُ يَكْذِبُ لِلْمَرْأَةِ لِيُرْضِيَهَا بِذَاكَ ‏"‏ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى‏:‏ وَيَحْرُمُ الْكَذِبُ لِغَيْرِ إصْلَاحٍ وَحَرْبٍ وَزَوْجَةٍ وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ‏:‏ وَضَابِطُهُ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْكَذِبِ فَهُوَ مُبَاحٌ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مُبَاحًا ‏,‏ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ ‏.‏

قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ‏:‏ وَهُوَ مُرَادُ الْأَصْحَابِ ‏.‏

وَمُرَادُهُمْ هُنَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْكَذِبُ إذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ مُسْلِمٍ مِنْ الْقَتْلِ ‏.‏

وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ يَحْرُمُ أَيْضًا لَكِنْ يَسْلُكُ أَدْنَى المفسدتين لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ‏:‏ هُوَ حَسَنٌ حَيْثُ جَازَ لَا إثْمَ لِي فِيهِ ‏,‏ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ‏.‏

وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ‏:‏ يَجُوزُ كَذِبُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ يَتَوَصَّلُ بِالْكَذِبِ إلَى حَقِّهِ ‏,‏ كَمَا كَذَبَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةً لَحِقَتْ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ ‏,‏ وَأَمَّا مَا نَالَ مَنْ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْحُزْنِ فَمَفْسَدَةٌ يَسِيرَةٌ فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بِالْكَذِبِ ‏,‏ لَا سِيَّمَا تَكْمِيلُ الْفَرَحِ وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ الَّذِي حَصَلَ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ بَعْدَ هَذَا الْكَذِبِ ‏,‏ وَكَانَ الْكَذِبُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ‏.‏

قَالَ وَنَظِيرُ هَذَا الْإِمَامُ وَالْحَاكِمُ يُوهِمُ الْخَصْمَ خِلَافَ الْحَقِّ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَقِّ ‏.‏

كَمَا أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِشَقِّ الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ حَتَّى يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ أُمِّهِ انْتَهَى ‏.‏

وَقِصَّةُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ كَمَا ذَكَرَهَا الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي الْهَدْىِ النَّبَوِيِّ وَابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ وَأَهْلِ السَّيْرِ وَالْمَغَازِي وَذَكَرْتهَا فِي كِتَابِي تَحْبِيرِ الْوَفَا فِي سِيرَةِ الْمُصْطَفَى ‏,‏ قَالَ فِي الْهَدْيِ‏:‏ وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ قَدْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ فَتْحَ خَيْبَرَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ شَيْبَةُ أُخْتُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَصِيٍّ ‏.‏

أَيْ وَهُوَ أَبُو نَصْرٍ الَّذِي نَفَاهُ عُمَرُ رضي الله عنه لَمَّا سَمِعَ أُمَّ الْحَجَّاجِ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ تَقُولُ الْأَبْيَاتَ الَّتِي مِنْهَا‏:‏ هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا أَمْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجٍ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه يَوْمًا لِلْحَجَّاجِ‏:‏ يَا ابْنَ الْمُتَحَبِّبَةِ ‏,‏ يُعَيِّرُهُ بِذَلِكَ ‏,‏ قَالَ فِي الْهَدْيِ‏:‏ وَكَانَ الْحَجَّاجُ مُكْثِرًا مِنْ الْمَالِ فَكَانَتْ لَهُ مَعَادِنُ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ ‏,‏ فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَيْبَرَ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ إنَّ لِي ذَهَبًا عِنْدَ امْرَأَتِي ‏,‏ وَإِنْ تَعْلَمْ هِيَ وَأَهْلُهَا بِإِسْلَامِي فَلَا مَالَ لِي ‏,‏ فَأْذَنْ لِي فَلْأُسْرِعْ السَّيْر وَأَسْبِقُ الْخَبَرَ ‏,‏ وَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم لَا بُدَّ لِي أَنْ أَقُولَ ‏,‏ أَيْ أَذْكُرَ مَا هُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ ‏,‏ فَأَذِنَ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ قُلْ قَالَ الْحَجَّاجُ فَخَرَجْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى الْحَرَمِ فَإِذَا رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْمَعُونَ الْأَخْبَارَ ‏,‏ قَالُوا حَجَّاجٌ وَاَللَّهِ عِنْدَهُ الْخَبَرُ ‏,‏ وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا ‏,‏ فَقَالُوا يَا حَجَّاجُ إنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْقَاطِعَ يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ ‏,‏ فَقُلْت عِنْدِي مِنْ الْخَبَرِ مَا يَسُرُّكُمْ ‏,‏ فَاجْتَمِعُوا عَلَيَّ يَقُولُونَ إيه يَا حَجَّاجُ‏؟‏ فَقُلْت لَمْ يَلْقَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَوْمًا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ غَيْرَ أَهْلِ خَيْبَرَ فَهُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ يُسْمَعْ مِثْلُهَا قَطُّ ‏,‏ وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ قَطُّ ‏,‏ وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ ‏,‏ وَقَالُوا لَا نَقْتُلُهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى مَكَّةَ فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ‏,‏ فَصَاحُوا وَقَالُوا لِأَهْلِ مَكَّةَ قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ ‏,‏ هَذَا مُحَمَّدٌ إنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يَقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ فَيُقْتَلُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ قَالَ حَجَّاجٌ وَقُلْت لَهُمْ أَعِينُونِي عَلَى غُرَمَائِي ‏,‏ فَجَمَعُوا لَهُ مَالَهُ بِأَحْسَنِ مَا يَكُونُ ‏.‏

قَالَ فِي الْهَدْيِ‏:‏ فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَخْفِي عَلَيَّ وَاجْمَعِي مَا كَانَ لِي عِنْدَك مِنْ مَالِي فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَإِنَّهُمْ قَدْ اُسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ ‏,‏ وَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أُسِرَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ ‏,‏ وَإِنَّ الْيَهُودَ قَدْ أَقْسَمُوا لنبعثن بِهِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ لَنَقْتُلَنَّهُ بِقَتْلَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ ‏.‏

وَفَشَا ذَلِكَ فِي مَكَّةَ وَاشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَلَغَ مِنْهُمْ ‏,‏ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ ‏,‏ وَبَلَغَ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه جَلَبَةُ النَّاسِ وَإِظْهَارُهُمْ السُّرُورَ ‏.‏

فَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ وَيَخْرُج فَانْخَزَلَ ظَهْرُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فَدَعَا ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ قُثَمُ وَكَانَ يُشْبِهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏,‏ فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِ أَعْدَاءُ اللَّهِ‏:‏ قُثَمُ شَبِيهُ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمِّ فَمَتَى ذِي النِّعَمِ يُرْغِمُ مَنْ رَغَمَ وَحُشِرَ إلَى بَابِ دَارِهِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ الْمُظْهِرُ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ ‏,‏ وَمِنْهُمْ الشَّامِتُ وَالْمُعَزِّي ‏,‏ وَمِنْهُمْ مَنْ بِهِ مِثْلُ الْمَوْتِ مِنْ الْحُزْنِ وَالْبَلَاءِ ‏.‏

فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ رَجَزَ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه وَتَجَلُّدَهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمْ ‏,‏ وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنْ قَدْ أَتَاهُ مَا لَمْ يَأْتِهِمْ ثُمَّ أَرْسَلَ الْعَبَّاسُ غُلَامًا لَهُ إلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ اُخْلُ بِهِ وَقُلْ لَهُ وَيْلَك مَا جِئْت بِهِ وَمَا تَقُولُ ‏,‏ فَاَلَّذِي وَعَدَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا جِئْت بِهِ ‏,‏ فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْغُلَامُ قَالَ لَهُ أَقْرِئْ أَبَا الْفَضْلِ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ لِيُخِلَّ بِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ حَتَّى آتِيَهُ ‏,‏ فَإِنِّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ ‏.‏

فَلَمَّا بَلَغَ الْعَبْدُ بَابَ الدَّارِ فَقَالَ أَبْشِرْ أَبَا الْفَضْلِ ‏,‏ فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحًا كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ بَلَاءٌ قَطُّ حِينَ جَاءَهُ ‏.‏

فَأَتَى الْغُلَامُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْحَجَّاجِ فَأَعْتَقَهُ ‏.‏

وَفِي سِيرَةِ الشَّامِيِّ أَنَّهُ اعْتَنَقَهُ وَأَعْتَقَهُ ‏.‏

فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِاَلَّذِي قَالَ قَالَ الْعَبَّاسُ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَشْرِ رِقَابٍ وَأَنَّ الْغُلَامَ اسْمُهُ أَبُو زَبِيبَةَ ‏.‏

قَالَ وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي الْإِصَابَةِ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

قَالَ فِي الْهَدْيِ‏:‏ قَالَ أَخْبِرْنِي ‏,‏ قَالَ يَقُولُ لَك الْحَجَّاجُ اُخْلُ بِهِ فِي بَعْضِ بُيُوتِك حَتَّى يَأْتِيَكُمْ ظُهْرًا ‏,‏ فَلَمَّا جَاءَ الْحَجَّاجُ وَاخْتَلَى بِهِ أَخَذَ عَلَيْهِ لتكتمن خَبَرِي ‏.‏

وَفِي سِيرَةِ الشَّامِيِّ فَنَاشَدَهُ اللَّهَ لِتَكْتُمَ عَنِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ‏,‏ وَيُقَالُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ‏,‏ فَوَاثَقَهُ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه عَلَى ذَلِكَ ‏.‏

فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ قَدْ افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ وَغَنَم أَمْوَالَهُمْ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ ‏,‏ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ لِنَفْسِهِ وَأَعْرَسَ بِهَا ‏,‏ وَلَقَدْ أَسْلَمْت وَلَكِنْ جِئْت لِمَالِي أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَهُ وَأَذْهَبُ بِهِ ‏,‏ وَإِنِّي اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُولَ فَأَذِنَ لِي ‏,‏ فَأَخِفَّ عَلَيَّ ثَلَاثًا ثُمَّ اُذْكُرْ مَا شِئْت ‏.‏

قَالَ فَجَمَعْت لَهُ امْرَأَتُهُ مَتَاعَهُ ثُمَّ انْشَمَرَ رَاجِعًا ‏,‏ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ مَا فَعَلَ زَوْجُك‏؟‏ قَالَتْ ذَهَبَ ‏,‏ وَقَالَتْ لَا يُحْزِنُك اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَك ‏,‏ فَقَالَ أَجَلٌ لَا يُحْزِنُنِي اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إلَّا مَا أُحِبُّ ‏,‏ فَتَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى رَسُولِهِ خَيْبَرَ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ ‏,‏ وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ لَك فِي زَوْجِك حَاجَةٌ فَالْحَقِي بِهِ ‏.‏

قَالَتْ‏:‏ أَظُنُّك وَاَللَّهِ صَادِقًا ‏.‏

قَالَ فَإِنِّي وَاَللَّهِ صَادِقُ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَقُولُ ‏.‏

قَالَتْ فَمَنْ أَخْبَرَك بِهَذَا‏؟‏ قَالَ الَّذِي أَخْبَرَك بِمَا أَخْبَرَك ثُمَّ ذَهَبَ ‏.‏

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ‏:‏ فَلَبِسَ حُلَّةً لَهُ وَتَخَلَّقْ أَيْ تَطَيَّبَ وَأَخَذَ عَصَاهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْكَعْبَةَ فَطَافَ ‏,‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا وَاَللَّهِ التَّجَلُّدُ لِحَرِّ الْمُصِيبَةِ ‏.‏

قَالَ كَلَّا وَاَلَّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ ‏,‏ لَقَدْ افْتَتَحَ مُحَمَّدٌ خَيْبَرَ وَتَرَكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مُلْكِهِمْ ‏,‏ يَعْنِي صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ ‏,‏ وَأَحْرَزَ أَمْوَالَهُمْ وَمَا فِيهَا فَأَصْبَحَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ ‏.‏

قَالُوا مَنْ جَاءَك بِهَذَا الْخَبَرِ‏؟‏ قَالَ الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ ‏,‏ وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا فَأَخَذَ مَالَهُ وَانْطَلَقَ لِيَلْحَقَ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابه فَيَكُون مَعَهُ ‏.‏

قَالُوا يَا لِعِبَادِ اللَّهِ انْفَلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ ‏,‏ أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْن ‏.‏

قَالَ فِي الْهَدْيِ‏:‏ وَلَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أَكْتُمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا لِحَاجَةٍ ‏.‏

قَالَ فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ كَآبَةٍ وَجَزَعٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ‏,‏ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَوَاضِعِهِمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى الْعَبَّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ فَأَشْرَقَتْ وُجُوهُ الْمُسْلِمِينَ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏

وَقَوْله كَمَا أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ ‏.‏

هَذِهِ الْقِصَّةُ ذَكَرَهَا الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ ‏,‏ وَهِيَ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ ارْتَفَعَتَا إلَى نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام ادَّعَتَا وَلَدًا مَعَهُمَا ‏,‏ فَحَكَمَ بِهِ دَاوُدُ عليه السلام للكبرى ‏,‏ فَقَالَ سُلَيْمَانُ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا ‏,‏ فَسَمَحَتْ الْكُبْرَى بِذَلِكَ ‏,‏ وَقَالَتْ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ رَحِمَك اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا ‏,‏ فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ‏.‏

قَالَ فِي الطُّرُقِ الْحُكْمِيَّةِ‏:‏ فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْقَرِينَةِ الظَّاهِرَةِ ‏,‏ فَاسْتَدَلَّ بِرِضَى الْكُبْرَى بِذَلِكَ وَأَنَّهَا قَصَدَتْ الِاسْتِرْوَاحَ إلَى التَّأَسِّي بِمُسَاوَاةِ الصُّغْرَى فِي فَقْدِ وَلَدِهَا ‏,‏ وَشَفَقَةُ الصُّغْرَى عَلَيْهِ وَامْتِنَاعُهَا مِنْ الرِّضَا بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ أُمُّهُ ‏.‏

وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ هُوَ مَا قَامَ بِقَلْبِهَا مِنْ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ فِي قَلْبِ الْأُمِّ ‏.‏

انْتَهَى ‏.‏